تحقّق الحلم الذي راودني طويلًا وهو زيارة مربط الخيول الخاصّ «مربط الإمارات» - هذا المكان الأسطوري، المغلق أمام الجمهور، والمصنّف كواحد من أجمل مزارع الخيول في العالم، حيث تُربّى وتُنتَج الخيول العربية الأصيلة ذات الجودة الأعلى والأنقى.
مكان يفيض بالعراقة والجمال، ويحتضن سلالات تُشبه الأساطير في بهائها.

مربط الإمارات للخيول العربية ليس مجرد مربط، بل صرحٌ مهمّ ومهيب في عالم الفروسية، يختصر حكاية شغف، ورؤية، وأصالة.

هذا الحلم لم يولد فجأة… بل تشكّل في قلبي رويدًا رويدًا، خطوة بخطوة، حتى أصبح يقينًا.
فكثيرًا ما تبدأ الأشياء العظيمة بإحساس صغير...
ننبهر بتفصيل بسيط، ثم نكتشف أن وراءه عالماً واسعاً من الدهشة والجمال.

بدأت حكايتي مع مربط الخيول العربية «مربط الإمارات» في الشارقة بلقاء لا يُنسى...
لقاء مع مهرٍ رائع، بلونٍ فضيٍّ فاتح، خطف بصري قبل قلبي.
كان ذلك في عام 2019، خلال البطولة الدولية للخيول العربية في أبوظبي، حين ظهر أمام المنصة مشهد أشبه بالأسطورة: لم يكن سوى «بجعة بيضاء» تنساب برشاقة على أرضية العرض - 

حصان عربي فائق الجمال، يأسر قلب من يراه. همست لنفسي دون تردد: سيكون هو البطل.
وبفضولٍ لا يُقاوم، بدأت أبحث في دليل العرض، أتتبّع رقمه عبر المدرب المرافق، لأعرف من هو هذا المهر البهيّ الذي بدا وكأنه خرج من صفحات القصص القديمة

 

كان اسمه يُجسّد هيبته تمامًا: "إي إس برنس" - الأمير.
وما إن قرأت اسمه حتى راودتني فكرة عابرة، تمنٍّ خافتٌ ولكنه ترك أثرًا عميقًا:
"كم أتمنى أن أعمل معه يومًا، أن ألتقط له صورًا تخلّد هذا الجمال!"
لقد أسرني كليًا، خطف كلّ انتباهي، وأثار في قلبي إعجابًا لم أشعر به منذ زمن، رغم أنني كنت قد شاهدت آلاف الخيول من أرقى سلالات العالم وأجملها. لكنه كان مختلفًا.

 كان مميزًا، متفرّدًا، فيه شيء من السحر الخفي، من النبل الهادئ، من الصفاء ما لا تُعبّر عنه الكلمات.
كان رقيق الملامح، شامخًا، مهيب البنية، شديد التناسق، وكأن الحرير نُسج على جلده، وكأن الأناقة وُلدت معه. ببساطة: كان تجسيدًا للكمال.
لكن، ويا للأسف، لم تُتوّج رحلته في ذلك اليوم بنجاح... رغم أن كلّ من رأى عرضه، أيقن في قرارة نفسه أنه الأجدر بالبطولة. غير أن سوء الحظ تدخّل بقسوة.

فللأسف لم تكن أرضية الساحة مجهزة بشكل تام، فكانت الرمال غير مستوية، مما تسبّب في انزلاق أقدام العديد من الخيول الصغيرة، التي راحت تتعثر وتلتوي سيقانها مع أولى خطواتها على الأرض.
وبين تلك الخيول... كان برنس. تعثر المهر الأمير، وظهرت عليه علامات العرج.
فكان القرار القاسي: استبعاده من المنافسة في لحظة لم يكن يستحق فيها سوى المجد.
وبينما كانت فرق التنظيم تهرع لتسوية الأرضية، كان الأوان قد فات...
لم يفز "برنس" في ذلك اليوم باللقب بالرغم من كونه المرشح الأبرز، وكأن التتويج كان ينتظره وحده… لكنه غاب عنه، وذهبت البطولة لغيره.

وهكذا بدأت رحلتي الحقيقية مع أحد أجمل الخيول العربية في العالم.
وبعد عامٍ تمامًا - في عام 2020 - حضرت أحد أكثر الأحداث رفعة في عالم عروض الخيول العربية: النسخة الأولى من بطولة الشراع الدولية لجمال الخيل العربية، برعاية الشيخة فاطمة بنت هزاع بن زايد آل نهيان، ابنة شقيق رئيس دولة الإمارات.
وهناك… كنت شاهدة على لحظة المجد من جديد. عاد "إي إس برنس" إلى الساحة، وقد ازداد بهاءً، ونضجت ملامحه، واكتمل حضوره، ليخطف الأنظار من جديد... وفي ذلك اليوم، سَطَع نجمُه كما لم يسطع من قبل

 

كنت قد لاحظت، بلا شك، أن الخيول التي تتصدّر المراكز الأولى عامًا بعد عام في كل بطولة من بطولات جمال الخيول العربية، كثيرًا ما تبدأ أسماؤها بالأحرف ES: مثل ES Harir، وES Sarab…
لكن ما لم أكن أعلمه حينها، هو أن هذه الحروف لم تكن مجرد صدفة أو تسمية جمالية، بل كانت بصمة تدلّ على مصدر النقاء... إشارة خفية إلى المربط الذي وُلدت فيه تلك الجياد البديعة، إلى المكان الذي صاغ ملامحها بعناية، ووهبها هذا البريق الفريد… مربط الإمارات.
يرمز الحرفان "ES" إلى مربط الإمارات للخيول العربية، الواقع في إمارة الشارقة، بدولة الإمارات العربية المتحدة. حين اكتشفت هذه الحقيقة، دفعني الفضول للبحث عن هذا المربط الساحر، لأتعرّف أكثر إلى سرّ تألّق خيوله وروعة إنتاجه…

 لكنني فوجئت بصعوبة الوصول إلى المعلومات المتوفرة عنه. والموقع الإلكتروني لا يُعبّر عن عراقة المكان وفخامة إنجازاته، وحسابات التواصل الاجتماعي في تلك الفترة كانت متواضعة، لا تكشف شيئًا من جوهر هذا العالم السري المذهل.
اضطررت إلى جمع المعلومات كما تُجمع اللآلئ من أعماق البحر –  من هنا وهناك، من زوايا الإنترنت، ومن معارفي في عالم الخيل.
وبينما كنت أنسج خيوط هذه الحكاية، عرفت أن مالك «مربط الإمارات» هو الشيخ عبدالله بن ماجد القاسمي، أحد أبناء الأسرة الحاكمة في الشارقة. رجل يتحلّى بهالة من الوقار والتحفّظ، نادر الظهور الإعلامي، قليل الحديث، كثير الفعل. مثقّف من الطراز الرفيع، نشِط لا يعرف الكلل، دقيق في اختياراته، صارم في رؤيته. أحد أعمدة تربية الخيول العربية الأصيلة في الإمارات، يمتلك نخبة من أندر وأجمل الخيول – سواء للعرض أو للسباقات.

Large es prince2

في مطلع الألفية الجديدة، كان الشيخ عبدالله بن ماجد القاسمي من أوائل الأصوات الجريئة التي نادت بضرورة استيراد خيول عربية أصيلة عالية الجودة من الخارج، والعمل على إعادة إحياء سلالة الخيول العربية داخل الإمارات، من خلال برامج تكاثر مدروسة وتربية دقيقة في بيئة محلية.
كانت رؤيته ثاقبة، تتجاوز الزمن، وتؤمن بأن الإمارات قادرة على أن تصبح أرضًا لإنتاج النقاء العربي، لا مجرد مستهلك له.
واليوم، من الصعب تصديق الأمر، لكن الحقيقة أن أول سجل للخيول العربية الأصيلة في الدولة لم يتضمن سوى ما يزيد قليلًا عن ثلاثمئة رأس فقط   رقم متواضع للغاية لا يليق بطموحات دولة بحجم الإمارات.
لكن الزمن تغير، والجهود أثمرت،

 وبحلول عام 2023، تجاوز عدد الخيول العربية المسجلة في الدولة حاجز العشرين ألفًا، في قفزة هائلة تُجسّد حجم التطوّر والانطلاقة.
أما اليوم، فقد أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة من أبرز الدول الرائدة عالميًا في مختلف ميادين الفروسية، تشارك، تنافس، وتفوز...
لكن كل تلك النجاحات الباهرة لم تكن سوى بذورٍ زُرعت في مطلع الألفية الجديدة، حين بدأ الحلم يشقّ طريقه نحو المجد.
كان الشيخ عبدالله بن ماجد القاسمي من الروّاد الأوائل الذين أطلقوا شرارة تنظيم بطولات الخيول العربية الأصيلة في دولة الإمارات، وذلك جنبًا إلى جنب مع كبار عشّاق الخيل والفروسية، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، وشقيقه الراحل الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم -  رحمه الله - وهما من أعمدة النهضة الفروسية في الدولة.

كما تبيّن لي أن الشيخ عبدالله يشغل منصبًا بارزًا في المشهد الفروسي الإماراتي، إذ إنه رئيس أول نادٍ للفروسية وسباقات الخيل في الدولة: نادي الشارقة للفروسية والسباق (Sharjah Equestrian and Racing Club - SERC)، والذي أُسّس في عام 1982، تحت رعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة. ومن اللافت أن صاحب السمو حاكم الشارقة هو أيضًا عاشق شغوف بالخيل العربية، ويجمعه بالشيخ عبدالله رابط الدم والنَسب، إذ هما ابنا عمومة. ويبدو أن حب الخيل في هذه الأسرة الكريمة ليس مجرد شغف... بل إرثٌ متجذّر، يسري في العروق كما يسري النبل في سلالات الخيول الأصيلة.في «مربط الإمارات»، وتحت القيادة المتفانية والمستمرة للشيخ عبدالله بن ماجد القاسمي،
تُدار اليوم واحدة من أدقّ وأرقى برامج تربية الخيول العربية الأصيلة في المنطقة، بل وربما في العالم.

تنقسم الخيول هناك إلى مسارين رئيسيين، كلٌ منهما يحمل خصوصيته وتفرّده:
• المجموعة الأولى: خيول العرض  - جيادٌ مثالية في ملامحها، متّسقة مع أرقى معايير الجمال العربي الأصيل، ممشوقة القامة، تأسر الأنظار بجمالها وهيبتها، تُجسّد صورة الجواد العربي كما رُسمت في الخيال والأساطير.
• والمجموعة الثانية: خيول السباق - سريعة، رياضية، مشدودة العضلات، تنحدر من أشهر وأندر السلالات العالمية المخصصة للسباقات، وتحمل في عروقها جينات العزيمة والاندفاع.
ويمضي أبناء هاتين المجموعتين، عامًا بعد عام، في حصد الألقاب واعتلاء منصات التتويج، محليًا وعالميًا، في مهرجانات الجَمال كما في ميادين السباق، وكلّ ذلك تحت إشراف رجلٍ يعرف تمامًا ما يريد، وما يصنع، ويقود بخطى واثقة مشروعًا من الطراز النادر.

وبين التصفيق والأضواء، كانت هناك رغبة لا تهدأ تشتعل في داخلي: كنت أتوق بكل جوارحي إلى زيارة هذا المكان المغلق، أن أراه بعينيّ، أن أكتشف خفاياه، وأفهم سرّ هذا النجاح المتفرّد.
لكن، كما هو الحال في العوالم النادرة، كانت الخيول هناك محمية بعناية، بعيدة عن عيون الغرباء، محفوظة كجواهر ثمينة لا تُعرض إلا في اللحظات المناسبة.
ولم تُفتح لي أبواب الحلم إلا في مارس 2022...
حينها، تلقيت الدعوة المنتظرة، ودخلت عالمًا خاصًا، مليئًا بالسحر والمعرفة والتفاصيل الدقيقة عن الخيول العربية الأصيلة. كانت تجربةً غامرة، أغنتني فكريًا وعاطفيًا، وعمّقت مفاهيمي لهذا الفن النبيل.

ما سبق هذه الدعوة لم يكن صدفة… فقد أعددت سلسلة منشورات ملونة تضم الكثير من المعلومات عن مربط  الإمارات، قمت بإعدادها بكل شغف، اعتمادًا على أرشيفي الشخصي من الصور، وعلى ما جمعته من خبرات ومعرفة على مرّ السنين. ولأكون صادقة، لقد كان إعداد هذا العمل متعةً خالصة لي…

بل تحوّلت لحظة النشر إلى ما يشبه احتفالًا خاصًا، إذ خصّصت مجموعة من المنشورات في حسابي على وسائل التواصل الاجتماعي لمدة أسبوع كامل أتحدث فيها عن انتصارات مربط  الإمارات، أرويه للجمهور كما تُروى القصص النادرة التي تستحق أن تُحفظ وتُتداول.

استغرقت وقتًا طويلًا في جمع الخيوط المتناثرة، معلومة تلو الأخرى، كما يجمع المرء فسيفساء نادرة التفاصيل…
كنت أُقلّب آلاف الصور في أرشيفي الخاص، أبحث فيها عن جياد  ES، أقارن الأرقام، أتحقّق من الأسماء، أُطابقها مع دلائل ومنشورات العروض، أُدقّق في كل تفصيلة، في كل وقفة، في كل حركة عين. وفي الوقت نفسه، بدأت أُتابع بطولات الخيول بنظرةٍ أكثر وعيًا ونضجًا. أراقب جياد مربط الإمارات بعين الباحثة، لا المتفرّجة. وكلما ازداد تأمّلي، ازداد يقيني أن هذا المربط لا يترك شيئًا للصدفة.الشيخ عبدالله، مالك المربط، يُتقن فنّ التربية بمعناه الأصيل. يختار أزواج التزاوج بعناية متناهية، ويصوغ كل جيل وكأنه يُشكّل تحفة وراثية. والأجمل… أن لخيله بصمة بصرية فريدة. نعم، صار من السهل التعرّف على جياد ES وسط أي بطولة، لها أسلوب، لها هيبة، لها توقيع خاص لا يُخطئه العارف.

لقد لاقت منشوراتي التي عرضت فيها صور خيول مربط الإمارات مرفقةً بوصف دقيق وملفت، تفاعلًا واسعًا ونجاحًا ملحوظًا في أوساط مجتمع الخيل العربي. كأن الصور لامست فيهم إحساسًا مألوفًا، وأعادت لهم مشاهد لطالما أحبوها، لكنها هذه المرة جاءت بعدسة تحمل حبًا حقيقيًا للخيل.
وقد بلغ صدى عملي إلى من لا تفوته التفاصيل... نعم، لاحظ الشيخ عبدالله بن ماجد القاسمي - مالك مربط الإمارات - تلك المنشورات، ورآها بقلب المربّي قبل عين المتابع، وقرّر أن يُكافئني بطريقة لا تُنسى. دعاني شخصيًا لأكون "المروّجة الإعلامية" لمهرجان الشارقة الدولي للجواد العربي 2022.

بعد انتهاء المهرجان، حدث ما لم أكن أتوقعه… معجزة صغيرة غيّرت مجرى الحكاية: فُتحت أمامي أبواب مربط الإمارات الخاص، ذلك العالم السري المحاط بالخصوصية. وقد وجّهت إليّ دعوة رسمية للعمل فيه كمصوّرة لخيوله العربية. وأخيرًا… تحقق الحلم الذي طالما راودني.

Large es

لكن ما رأيته هناك فاق كل تصوّراتي، وتجاوز حتى أكثر أحلامي جموحًا.
فمربط «الإمارات» ليس مجرد مكان لتربية الخيل… إنه واحة خضراء شاسعة، قطعة من الجنة على الأرض، حيث لا تنمو النخيل وحدها، بل تتماوج فيها أشجار نادرة، وأزهار متنوعة، وأعشاب عطرية، وشجيرات "بوغانفيليا" الملونة تُزهر كأنها لوحات زيتية.
وفي أرجاء هذا المكان الأخّاذ، تنتشر أجنحة صغيرة مخصّصة للغزلان والطواويس، ومراعي واسعة تسكنها الظباء النادرة ذات اللونين الأبيض والأسود - الأوريكس، بينما تقف الخيول العربية - السباقة منها والعرضية -  في اسطبلات أنيقة، تحيط بها العناية من كل جانب.
والأجمل من كل هذا، أن هذا المتنزه الشاسع ليس إلا جزءًا واحدًا فقط من ممتلكات الشيخ عبدالله بن ماجد القاسمي…

في البداية، استقبلتني السيدة كريستين، مديرة المربط الراقية، بابتسامة دافئة وأناقة مهنية.
قدّمت لي شرحًا مفصّلًا عن البروتوكول الداخلي للمكان، ثم أخذتني في جولة ساحرة عبر أرجاء الحديقة الواسعة، على متن عربة غولف صغيرة تنساب وسط الخضرة والظلال.
معًا بدأنا نختار أنسب المواقع لتصوير الجواد البطل، نراقب تغيّر الضوء في ساعات مختلفة من اليوم - صباحًا، ظهرًا، وعند الغروب - كنت أبحث بعين المصوّر عن الزوايا التي يحتضنها النور بلطف، والتي تليق بجمال البطل الذي سيقف أمام عدستي.
وما إن حلّ الصباح التالي، حتى بدأنا العمل.

وهناك... كان برنس كما تخيّلته، بل أجمل. جواد في منتهى الهدوء والرقيّ، يفيض وقارًا وثقة. كان مطيعًا للغاية، يُمسك الحبل برفق وكأنه يفهم تمامًا ما يُطلب منه، يتحرك بانتباه، يتوقف بتأنٍ، ينظر بعينَيْه الواسعتَيْن الساكنتَيْن وكأن فيه حكمة ووعيًا غير مألوف.
شعرت أنه لو تُرك حرًا، فلن يهرب، بل سيقف بثباتٍ وينتظر صاحبه...
هو حصان مرتبط بالإنسان، لا بالمكان، بعينين سوداويين، عميقتين، فيها دهشة الأطفال ونُبل السلاطين.
ذكيّ؟ بل أكثر من ذلك.
كائنٌ فيه روحٌ تُشبه البشر... فيه شيء لا يمكن وصفه بكلمات.
كأنّ فيه مسحةً من الصفاء… أو بعبارة أدق: كأنه خُلق ليكون أسطورة.

بالفعل، من النادر أن تُصادف خيولًا مثل إي إس برنس. فالخيول العربية - وخصوصًا الفحول منها - تأتي بطباع مختلفة: منها من يكون بارد المشاعر، أو سريع الغضب، أو كسولًا لا يتحرك إلا مجبرًا، ومنها من يبدو ودودًا، أو خجولًا، أو حتى جريئًا حدّ الوقاحة.
أما برنس... فهو حكاية مختلفة تمامًا.

حصان رقيق الطبع، ناعم السلوك، يتعامل مع محيطه بوعيٍ وإحساس، كأنه لا يؤدي دور الحصان، بل يعيش مهمته النبيلة بكل كيانه. وهذه الروح المتزنة لم تزد جماله إلا إشراقًا وأصالة، وهذا يؤكد فقط رقيه ونبله ونسبه وخاصة من جهة أمه ذات الدم المصري النقي.

لكل جواد عرضٍ لحظاته الذهبية، سنوات يتجلّى فيها في أبهى صوره، وتبلغ هيئته أقصى درجات الكمال. ولحسن الحظ، كنت شاهدة على لحظات مجد "إي إس برنس"، حين كان في قمة تألقه، ونضوج وقفته، واكتمال ملامحه.
كانت هدية القدر أنني استطعت أن أوثّق هذا الجمال المتفرّد بعدستي، أن أُخلّد رقّته وأناقة حضوره، وأشارك هذا الكنز البصري مع المجتمع العربي العاشق للخيول.

لطالما كان برنس محبوبًا من الجمهور، تُقابله العيون بإعجاب، وتُصفّق له القلوب قبل الأكف.
لكن في موسم العروض 2021–2022، كان هناك شيء مختلف…
استُقبل بحرارةٍ استثنائية، وتضاعف الحماس من حوله، حتى بدا وكأن الجماهير كانت تنتظر ظهوره بشوقٍ دفين. ومع هذا الكمّ من الاهتمام، ومع تاريخه المذهل من الإنجازات، لم يكن مفاجئًا أن يصل الخبر السعيد: "إي إس برنس" يُتوّج رسميًا كأجمل حصان عربي في دولة الإمارات العربية المتحدة، بعد أن حصل على أعلى تقييم: 94 من 100.

وبينما لا تزال أصداء المجد تتردّد، نعود إلى مربط «الإمارات، إلى لحظة التصوير التي جمعتني به، والتي أضحت في ذاكرتي أقرب إلى حلمٍ من نور. التقطنا عشرات الصور… في مواقع مختلفة من الحديقة، وفي ساعات متعددة من النهار: صباحًا حين ينسكب الضوء بهدوء، وظهرًا حين تشتد الظلال، ومساءً حين يهبط وهج الشمس على الرمال بلونٍ ذهبي.

تخللت جلسات التصوير استراحات دافئة في "المجلس" - دار الضيافة داخل المربط، ذلك المكان المغمور بالتاريخ والبطولات، حيث تتوزع الكؤوس الذهبية على الطاولات والرفوف كأنها نجوم سقطت من السماء واستقرت هناك.

كل زاوية في المجلس تحكي عن نصر… أوشحة النصر، بطانيات التتويج المطرّزة، تماثيل الجوائز، كل قطعة هناك تحمل ذكرى انتصارٍ خطّه جوادٌ عربيّ من إنتاج هذا المكان.

ولا ننسى أننا نتحدث عن الإمارات… حيث تتجاوز درجات الحرارة في الصيف الخمسين مئوية.
ومع ذلك، تستمر الحياة الفروسية بلا توقف، ويتطلب الأمر بيئة مريحة لتدريب الخيول وعرضها على مدار العام. ولذا، صُمّم المجلس والمانِج (ساحة التدريب الداخلية) بطريقة ذكية،
فهما متصلان تحت سقف واحد، وبينهما حائط زجاجي أنيق مزوّد بأبواب منزلقة.هكذا، ومن داخل المجلس المُكيّف، يستطيع الضيوف متابعة الخيول وهي تُعرض أمامهم في المانج المكَيّف، دون أن يشعروا بحرّ أو تعب، في مشهد أقرب إلى عرض مسرحي راقٍ تُؤديه الخيول على خشبة مجدها.

يفصل بين المجلس والساحة جدار زجاجي أنيق، تتخلله أبواب منزلقة تُفتح بسهولة،
بحيث يمكن الانتقال مباشرة من المجلس إلى ساحة التدريب الداخلية، المغلقة والمكيفة بالكامل.
وعندما يدعو الشيخ عبدالله ضيوفه من كبار مربي الخيل، فهو غالبًا ما يستعرض أمامهم أجمل وأندر خيوله من داخل المجلس ذاته. يقوم المدربون بإخراج الخيول واحدة تلو الأخرى، في حين يجلس الضيوف بكل راحةٍ وهدوء على مقاعد فاخرة، ويشاهدون العرض في أجواء مكيفة، مضاءة، بعيدًا عن أشعة الشمس الحارقة. المشهد يبدو كمسرح صغير، بطلته الخيول، وجمهوره نخبة من العارفين بالفروسية، يتأملون الهيئات، يقيّمون التفاصيل، ويعيشون لحظات من الدهشة الصامتة.

أما عن الشيخ عبدالله… فهناك ما يستحق أن يُقال. إنه شخصية لا تشبه غيرها، رجل كريم، حكيم، ذو بُعد نظر، يتّسم برزانة عقل وسمو خلق. قد يبدو في الظاهر متحفظًا أو خجولًا… لكني رأيته ذات مرة عن قرب، خلال أحد العروض، وراقبته دون أن يشعر. رأيته يضحك من قلبه، يتفاعل مع من حوله، يوزّع الفرح بعفويته… هو ببساطة "روح المجلس"، مركز الانتباه، والمغناطيس الذي يشدّ القلوب. لكن رغم هذه الروح المرحة، يحتفظ بداخله بشيء من السكينة العميقة، والحياء النبيل. لا يُكثر الحديث عن إنجازاته، رغم أنها جديرة بأن تُروى في كتب كاملة.على سبيل المثال الجواد العربي "إي إس عجيب (ES Ajeeb)"، أحد أبرز إنتاجات مربط الإمارات والذي يُعدّ من أبرز خيول السباق في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ حقق إنجازًا نادرًا بالفوز في كافة ميادين السباق الخمسة على مستوى الدولة.

 ولن ننسى أيضًا "إي إس حرير (ES Harir)"، ذلك الجواد العربي الفاتن، الذي توّج بذهبية بطولة العالم في عام 2018، ثم عاد ليُسجّل اسمه في التاريخ مرة أخرى بتتويجه بلقب بطل العالم البلاتيني لعام 2022 -  وهو أعلى وسام يُمكن أن يُمنح في عالم بطولات الخيول، ذروة المجد، ونهاية السلّم في رحلة الحلم.
ولن تقف الأسماء عند هذا الحد، فخلف بوابات مربط  ES هناك قائمة طويلة من الأبطال:
فحول ومهرات عربية أصيلة، تنحدر من أندر السلالات، جميعهم ارتقوا منصات التتويج في أشهر العروض العالمية، يحملون الذهب والفضة والبرونز كما يحملون الفخر في خُطاهم.

من المرجّح أن العديد من الخيول التي تحمل اختصار ES قد وُلدت وتألق نجمها قبل أن أدخل عالم الخيول الاحترافية، أي قبل عام 2015. للأسف، لم أكن شاهدة على تلك الحقبة الذهبية، فقد مرّت مواسمها سريعًا، فمسيرة الجواد الاستعراضي قصيرة بطبيعتها، لا تلبث أن تنتهي حتى تُفسِح الطريق لأبطال جدد.
وما يُحزن أكثر، أن صور تلك الخيول القديمة نادرة جدًا على الإنترنت، كأنها لآلئ تاهت في بحر الذاكرة. 

ولهذا، أشعر بمسؤولية عميقة تجاه توثيق ما يمكن توثيقه من صور ومقاطع فيديو لهذه الخيول العربية الساحرة من إنتاج مربط  الإامارات، أن أُحافظ على ملامحها في الأرشيف، أن أمنحها حياة جديدة من خلال العدسة والكلمة.
وهذه المقالة التي أضع بين أيديكم الآن، ليست إلا محاولة صادقة لتكريم هذا المربط النادر والفريد.

وما ذكرته هنا من أسماء، ليس سوى غيضٍ من فيض:

 إي إس حرير، إي إس سراب، ،إي إس برنس، إي إس تيبر، إي إس إبريز، إي إس هند، إي إس الشارقة، إي إس وادي، إي إس أسجد، إي إس شيخة، إي إس سلمى، إي إس سارة، إي إس فوزان، إي إس تاج، إي إس نيفناف، إي إس زين، إي إس ريان، إي إس جابر، إي إس سالم، ماجستي، إي إس ميزان، إي إس رشيق، إي إس رشيدة، إي إس حبيبة، إي إس هلا، إي إس الكوثر، اي اس عجيب، اي اس ما شاء الله، اي اس لاتام، اي اس ابو موسى، اي اس هاوند، اي اس تانجو...
وغيرها الكثير والكثير من الأسماء التي نقشت أمجادها في سجلات البطولات العالمية والمحلية.

أسماء تستحق أن تُروى، وتُحفظ، ويُحتفى بها دائمًا.

  • Cropping me
    ووصف وتصويرفيكتوريا لازاريفا
كل القصص البلاد
يمكنك الضغط على ESC في أي نافذة ل إغلاقه.